فصل: سورة الإنسان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{أيحسب الإنسان أن يترك سدى}..
فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية.. أرحام تدفع وقبور تبلع.. وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب من متاع الحيوان.
فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة؛ وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء ينتهي إلى الحساب والجزاء.. أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.
والذي يميز الإنسان عن الحيوان، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات. وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني، ومن الوجود كله من حوله. وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته، ودقة تصوره لوجود الناموس، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس. فلا يعيش عمره لحظة لحظة، ولا حادثة حادثة، بل يرتبط في تصوره الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل. ثم يرتبط هذا كله بالوجود الكبير ونواميسه. ثم يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة لا تخلق الناس عبثاً ولا تتركهم سدى.
وهذا هو التصور الكبير الذي نقل القرآن الناس إليه منذ ذلك العهد البعيد، نقلة هائلة بالقياس إلى التصورات السائدة إذ ذاك وما تزال هائلة بالقياس إلى سائر التصورات الكونية التي عرفتها الفلسفة قديماً وحديثاً.
وهذه اللمسة: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}.. هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري، كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.
وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى:
{ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}.
فما هذا الإنسان؟ مما خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟
ألم يك نطفة صغيرة من الماء، من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذا النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟
ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنيناً معتدلاً منسق الأعضاء؟ مؤلفاً جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة؟ والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، وهو خليقة صغيرة ضعيفة، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟!
ثم في النهاية.
من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة.. الذكر والأنثى؟.. أي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكراً؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ أم من ذا الذي يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟!
إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير.. {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}..
وأمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضاً على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق التي تعالجها السورة:
{أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}..
بلى! سبحانه! فإنه لقادر على أن يحيي الموتى!
بلى! سبحانه! فإنه لقادر على النشأة الأخرى!
بلى! سبحانه! وما يملك الإنسان إلا أن يخشع أمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضاً.
وهكذا تنتهي السورة بهذا الإيقاع الحاسم الجازم، القوي العميق، الذي يملأ الحس ويفيض، بحقيقة الوجود الإنساني وما وراءها من تدبير وتقدير..

.سورة الإنسان:

.تفسير الآيات (1- 31):

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}
في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية، ولكنها مكية؛ ومكيتها ظاهرة جداً، في موضوعها وفي سياقها، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها. بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به.. كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمل، وفي سورة المدثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.. واحتمال أن هذه السورة مدنية في نظرنا هو احتمال ضعيف جداً، يمكن عدم اعتباره!
والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة، والالتجاء إلى الله، وابتغاء رضاه، وتذكر نعمته، والإحساس بفضله، واتقاء عذابه، واليقظة لابتلائه، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء..
وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئاً مذكوراً في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً}..
تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته، وحكمة الله في خلقه، وتزويده بطاقاته ومداركه: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً}..
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق، وعونه على الهدى، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا}..
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية، وما تثيره في القلب من تفكير عميق، ونظرة إلى الوراء. ثم نظرة إلى الأمام، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق.. بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار.. وترغيبه في طريق الجنة، بكل صور الترغيب، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}..
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا إنا نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا}.
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام، يبتغون وجه الله وحده، لا يريدون شكوراً من أحد، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير!
تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين. فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا عيناً فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا إن هذا كان لكم جزآء وكان سعيكم مشكورا}.
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود، اتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيته على الدعوة في وجه الإعراض والكفر والتكذيب وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلا}..
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئة الابتلاء. ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلا نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشآءون إلا أن يشآء الله إن الله كان عليماً حكيما يدخل من يشآء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما}..
تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة، على أساس الابتلاء، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء. فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره. غير واع ولا مدرك، وهو مخلوق ليبتلى، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء.
وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم. أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم، وهو نعيم حسي في جملته، ومعه القبول والتكريم، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية، شديدي التعلق بمتاع الحواس، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم، ويثير تطلعهم ورغبتهم.
وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم. والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم. وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال.
{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}..
هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه: ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئاً من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة، وسلطت عليه النور، وجعلته شيئاً مذكوراً بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً؟
إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام. وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى:
واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء. يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان.. كيف تراه كان؟.. والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته، حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال. ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى الإنسان.. حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان!
وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني. وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله؛ والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة، المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون! المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل!
وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود؛ وتعده لدوره، وتعدّ له دوره، وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله؛ وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكناً وميسوراً؛ وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة، ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير!